أخـلاقيات الخـلاف

shadad

مستشار الشبكة العربية
بسم الله الرحمن الرحيم​



سلسلة اخرى من سلاسل ادب الحوار , التي طالما يفتقدها البعض للاسف الشديد , قمت بنقلها لكم من الاستاذ الفاضل : سلمان بن فهد العودة

اتمنى لكم الاستفادة منها ...





للخلاف آداب وأخلاق يجمل الاتصاف بها والوقوف عليها للأخذ بها، من أبرزها :

أولاً: عدم التثريب بين المختلفين؛ فلستَ بأصدق إيماناً بالضرورة، ولا أوسعَ علماً، ولا أرجحَ عقلاً ممن تختلف معه، ولهذا قال يحيى بن سعيد: ما برح المستفتون يسألون، فيجيب هذا بالتحريم، وهذا بالإباحة، فلا يعتقد الْمُبيحُ أن الْمُحَرِّمَ هلك، ولا يعتقد الْمُحَرِّمُ أن المبيحَ هلك.

وكان الإمام أحمد يقول: ما عبر الجسر إلينا أفضل من إسحاق، وإن كنا نختلف معه في أشياء؛ فإنه لم يزل الناس يخالف بعضهم بعضا.

كتب أحدهم رأياً في مسألة من المسائل الفقهية ونشرها؛ فقال له أحد المناقشين: لماذا تبحث هذه المسألة التي لم يبحثها العلماء من قبلك؟!
قال له: لقد بحثوها وأوسعوها بحثاً.
قال له: إذاً فلماذا تبحثها وقد بحثوها، ألا يكفيك بحثهم عما فعلت.
إن أفهام الرجال ليست وحياً، والمدارس الفقهية، أو الدعوية ليست هي الإسلام، وإن كانت تنتسب إليه وترجع إليه.

وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : ( وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ).

لاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم يوصي رجلاً من أصحابه اختاره لقيادة الجيش، والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر بين أظهُرهم، ويقول له: لا تنزل الناس على ذمة الله وذمة رسوله، ولا على حكم الله وحكم رسوله؛ لأنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله وحكم رسوله أم لا ، ولقد سمعت بأذني غير مرة من يتكلم بمسألة قصارى ما يُقال فيها: إنها اجتهادية؛ فيقول: أنا لا أتكلم من قِبل نفسي أنا لا أقول برأي، وإنما هذا منهج الله، هذا حكم الله، و أقول: سبحان الله؛ فهل الآخرون يأخذون من التوراة، أو الإنجيل؟ كلا؛ بل الجميع يدورون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن يكون المعنى قابلاً لأكثر من اجتهاد، وأكثر من محمل، وأكثر من رأي.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص إن الله حرم هذا وأوجب هذا، أو هذا حكم الله.


ويقول ابن تيميه -رحمه الله-:ولكن كَثِيرًا من النَّاسِ يَنْسُبُونَ ما يقولونه إلى الشَّرْعِ وليس من الشَّرْعِ ; بل يقولون ذلك إما جَهْلاً وَإما غَلَطًا وَإما عَمْدًا وَافْتِرَاءً.

إنه لا وصاية على الناس ولا إلزام بمذهب معين، وقد عرض المنصور على إمام دار الهجرة مالك بن أنس أن يعمم كتاب الموطأ على الأمصار، وأن يُلزم الناس بالأخذ به، فنهاه عن ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وعملوا بذلك، ودانوا به من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم.

وهذا من فقه هذا الإمام وتقواه؛ فإن كثيراً من المختلفين لو استطاع أحدهم أن يستميل إليه السلطان ليتقوى به على خصومه؛ لفعل.

وقد وقع هذا كثيراً في التاريخ والواقع؛ فإن كثيراً من المختلفين من المذاهب الفقهية أو الاعتقادية، ربما استنصروا بالسلطان على خصومهم وأعدائهم؛ فأبعدوهم وآذوهم.


ثانياً: الإنصاف كما قال عمار رضي الله عنه في صحيح البخاري: ( ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ : الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ ).

والإنصاف خلق عزيز يقتضي أن تنزل الآخرين منزلة نفسك في الموقف، والإنصاف ضرورة، وله قواعد منها:

1. أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين؛ فمن ثبت له أصل الإسلام لا يخرج من الإسلام ويحكم بكفره إلا بيقين، ومن ثبتت له السنة لا يخرج منها إلا بيقين، وهكذا من ثبت له شيء؛ فإنه لا يُنزع منه إلا بيقين.

2. الخطأ في الحكم بالإيمان أهون من الخطأ في الحكم بالكفر؛ أي لو أنك حكمت لشخص بالإسلام بناءً على ظاهر الحال، حتى لو كان من المنافقين مثلاً أو ليس كذلك؛ فإن هذا أهون من أن تتسرع وتحكم على شخص بالكفر، ويكون ليس كذلك؛ فتقع في الوعيد ( وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ : عَدُوَّ اللَّهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ ). أي رجع عليه .


3. في مسائل الاجتهاد لا تأثيم ولا هجران، وهذا ذكره ابن تيمية -رحمه الله- وهذا مذهب أهل السنة: أنهم لا يرون تأثيماً لكل من اجتهد في المسائل كلها من غير تفريق بين الأصول والفروع، فمن استفرغ وسعه في معرفة مراد الله عز وجل ، وكان أهلاً لذلك، فإنه لا يأثم بهذا الاجتهاد بل هو بين أجر وأجرين، فلا تأثيم في مسائل الاجتهاد، ولا ينبغي أن يكون ثمت تهاجر بين المؤمنين.

4. التحفظ عن تكفير فرد بعينه أو لعنه، حتى لو كان من طائفة، أو كان من أصحاب قولٍ، يصح أن يوصف أنه كفر، وها هو الإمام أحمد -رحمه الله- كان يُكفّر الجهمية، ويكفر من يقول القرآن مخلوق، ومع ذلك لم يكفر أحداً منهم بعينه، لا المأمون ولا سواه، بل كان يدعو له، ويستغفر له، ويجعله في حِلٍ مما صنع فيه .

5. الأخذ بالظاهر، والله يتولى السرائر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ ) .

6. تسلط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، ولقد اتفق أهل السنة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ، بل عامة المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ، يقول ابن رجب -رحمه الله-: أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيره، مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم فكان ماذا؟ لقد انغمر ذلك في بحر علمهم، وحُسن مقصدهم، ونصرهم للدين، والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محموداً ولا مشكوراً، لاسيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها كشفه وبيانه.

والعجيب أن كثيراً من الناس قد يتحفظون ويتورعون عن أكل الحرام -مثلاً-، أو عن شرب الخمر، أو عن مشاهدة الصور العارية والمحرمة، ولكن يصعب عليه كف لسانه؛ فتجده يَفْرِي في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول، ولهذا قرر العلماء أن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله.


ودمتم لنا سالمين ...


وفي امان الله
 
أعلى